کد مطلب:323849 شنبه 1 فروردين 1394 آمار بازدید:292

علم النفس التجریبی و العودة الی الدین
من افضل الكتب التی قرأت، ذلك الكتاب الذی ألفه عالم النفس الامریكی الكبیر الدكتور هنری لئك، و الذی حصل علی الدكتوراه من جامعة یبل بأمریكا عام 1916 م، و عرضت علیه الجامعة منصبا من مناصب التدریس، و لكنه آثر التفرغ لأبحاثه و دراساته لحالة الآلاف من الناس. و لقد أنفق الدكتور هنری لنك خمسة عشر عاما فی هذه الدراسات، ختمها باصدار الكتاب الذی أتحدث عنه الآن و هو كتاب «العودة الی الدین» و الذی قام بترجمته الی العربیة الدكتور ثروت عكاشة. و قبل ان أعالج موضوع هذا الكتاب، ینبغی أن نشیر الی أن مؤلفه تعزی الیه المبتكرات فی الاختیارات النفسیة العدیدة، مثل اختبارات الذكاء و اختبارات الشخصیة، و مدی ما اكتسبه الشخص من العادات و المهارات فی خدمة الغیر و اسعادهم. و فوق هذا كله، فهو بهذا الكتاب صاحب نظرة أصیلة
نحو الدین، تجمع بین الدراسة العلمیة لنفسیة الفرد و نفسیة الجماعة.. فلا غرو اذن ان ینال كتابه عن «العودة الی الدین» رواجا واسعا فی اوربا و أمریكا.. و لا غرو ان أعتمد علیه الیوم فی الرد علی الأستاذ بیكار، علی البهائیین من الذین ضلوا عن الفطرة السریة، و أغوتهم غوایات الأفعی الصهیونیة، التی تتلون كل یوم بلون، و بمذهب، حتی تضل الناس عن طریق الله.

فالاستاذ: یقول من رسالته الموجهة الی: «كنت یا سیدی ظمآنا (ظمآن) للمعرفة، متعطشا الی ردود كثیرة تروی العقل و القلب، و تجنبنی شر التردی فی هاویة الالحاد و تنتشلنی من متاهات «المیثولوجیا» التی یطالعنا بها المفسرون الاجلاء كل یوم فلم أجد الا تأویلات سرابیة لا تروی ظمأ و لا تشبع جوعا»..

و اذا كان الحدیث عن الفطرة النقیة، لم یهد الاستاذ بیكار الی الدین القویم، فاننی أهدی الیه هذا الكتاب لعالم غیری و غیر مسلم عسی أن یجد فی قوله دلیلا یعیده الی طریق الحق، الی الاسلام أو السراط المستقیم علی حد تعبیر علماء افاضل غیر عرب و غیر مسلمین.

فالدكتور هنری لنك یقول: «لا مناص من أن نعود الی ایماننا القدیم - یقصد حینما یتعرض الانسان لمثل حالة الأستاذ بیكار التی فصلها بقلمه [1] - نعود الی ایماننا القدیم متجردین من شوائب الشك طارحین شوارد القلق بعیدین عن شطحات الجموح، كی ترتد الینا راحتنا و یرتد الینا اطمئناننا. عندها سوف نقوی علی أن نستقبل الحیاة و ادعین، مطمئنین الی الحق، مرتاحین الی الخیر، موصولین بالفضیلة مستمتعین بالجمال. و عندها سوف تتصل أنفسنا بالمجتمع عن رضی بما تملیه روح الجماعة، و ما تشیعه بین الأفراد من طمأنینة و استقرار».
و الاستاذ بیكار - كما صرح هو فی موضع آخر [2] - ولد لأبوین مسلمین، أی انه لم یقع فی الحیرة التی یقع فیها غیر المسلمین؛ فكان علیه ان یعود الی دینه القدیم - كما یوصی بذلك عالم النفس الكبیرد. هنری لنك - و كان سیجد فیه هذا الخلاص و هذه القیم التی ینشدها و یبحث عنها.

و لكنه - فیما یبدو - وقع تحت برائن المبشرین بالبهائیة [3] و هؤلاء أخطر أنواع المبشرین، لأنهم یدخلون لكل انسان بالمدخل الملائم له، و بما أن الأستاذ بیكار «فنان» فقد دخلوا الیه من مدخل الفن و ما یرتبط به من قیم علیا..
و تناسی ساعتها ان هذه القیم العلیا انما هی التی دعا الیها الاسلام، و هذا الذی وقع للأستاذ بیكار، و لأمثاله ممن وقعوا فی شراك البهائیة، وقع لكثیرین - علی هذا النحو أو ذاك - فقد امتحن الجنس البشری بهذا - و لا سیما فی الغرب - علی أثر الكشف عن العلوم الطبیعیة، و اذا بهؤلاء یقعون فی تجربة من القلق قاسیة كادت أن تودی بالعلاقات و القیم و المثل و تأتی علی أسسها و أصولها و تطوح جانبا بما یسود العالم من استقرار و هدوء، علی نحو ما یفصل الأستاذ بیكار ضاربا الأمثلة فی رسالته. و لم یبرأ الدین - عند هؤلاء - بما منی به غیره من شك و ریبة، و استغلت المذاهب الهدامة - مثل البهائیة - هذا المناخ لزلزلة عقائد الانسان مسیحیا أو مسلما - بالتحالف مع الیهودی لصالح الصهیونیة العالمیة - و لكن الله سبحانه و تعالی وجه الانسانیة الی وجهة الحق، فكانت العودة الی الدین أقوی ظاهرة یعرفها هذا القرن المیلادی الذی یولی الی المغیب، و أنبری علماء النفس التجریبی یتبعون الدلیل بالدلیل علی الا تناقض بین الدین و العلم، فان الدین حین یبلغ مبلغه من النفوس یحقق للبشریة أوفر حظ من العدالة الاجتماعیة. و كان لهذا أثره فی عودة الناس الی الدین و الی الایمان و الاستمساك بما فی الدین من مثالیة.

و أقدم الیوم للأستاذ بیكار و للبهائیین، و لكل من تعرضوا للهزات الالحادیة، كتاب د. هنری لنك الذی یقدم الدلیل بعد الدلیل لهذا التطور فی حیاة البشر، بعودتهم الی الدین. فهو یروی للقراء قصة انحرافه هو نفسه عن الدین، و عن العودة الی الایمان به، و كیف أخذ یتلمس بنفسه تأثیر الدین فی نفوس مرضاه، و كیف كان للایمان فضل علاجهم، علی حین كانت تخفق ألوان العلاج الأخری. فهو لم یجد وسیلة یعالج بها الآلاف من الحالات التی عرضت له الا أن یعیدها ای موازینها الجماعیة، بالدین و الایمان و ألوان النشاط الاجتماعی. و ظل هذا دأبه، فاذا هو یجد نفسه تعود بدورها الی الایمان، بعد أن تبین له بالدلیل انه لا مناص للانسان من الایمان النقی.
یقول د. هنری لنك بعد أن یعرض لحالة قام بعلاجها: «فی هذه الحادثة بالذات وجدت نفسی - أنا الملحد المنكر للبعث الكافر بالله (كما تصنع البهائیة و القدیانیة و المذاهب الهدامة) - أتحمس بشدة مدافعا عن مبدأ الاتجاه الدینی فی الحیاة.. أخذت مثل هذه الحوادث تدفعنی خطوة أثر أخری، حتی اقتنعت تماما بأن كل مكتشفات علم النفس لتقویم الشخصیة و الوصول الی سعادة النفس و رضاها تنتهی الی التمسك بالحقائق الدینیة القدیمة و التعلق بها. و كما جرفنی العلم قدیما بعیدا عن الدین، كانت عودتی الیه أیضا عن طریقه هو، و من هنا كان وجه التناقض».

و لو كان مسلما أو مطلعا علی النصوص الاسلامیة، لوجد ألا تناقض بین العلم و الدین، و لوجد دعوة القرآن الكریم للناس أن یسوقوا عقولهم الی آفاق النظر فی هذا الوجود، لیطالعوا فی صحفه ما سطر من آیات الله، الدالة علی بدیع صنعه، و روعة حكمته، و سلطان قدرته و محیط علمه. فاذا ورد العقل هذا المورد استدل بالمخلوقات علی الخالق، و بالمبدعات علی المبدع، فینشرح لذلك صدره بالایمان بالله، و یخفق قلبه خفقات الولاء و الخشوع لله رب العالمین. یقول الله تعالی، موجها عقول العقلاء الی موارد العلم، باسطا بین یدیها كتال الكون كله، عی حد تعبیر د. عبدالكریم الخطیب لتقرأ، و تتدبر و تتعظ و تؤمن: «ان فی خلق السموات و الأرض و اختلاف اللیل و النهار و الفلك التی تجری فی البحر بما ینفع الناس و ما أنزل الله من السماء من ماء فأحیا به الأرض بعد موتها و بث فیها من كل دابة و تصریف الریاح و السحاب المسخربین السماء و الأرض لآیات لقوم یعقلون» [4] .

و یقول سبحانه و تعالی: «و الله أنزل من السماء ماء فأحیا به الأرض بعد موتها، ان فی ذلك لآیة لقوم یسمعون - و ان لكم فی الانعام لعبرة
نسقیكم مما فی بطونه من بین غرث و دم لبنا خالصا سائغا للشاربین - و من ثمرات التخیل و الأعناب تتخذون منه سكرا و رزقا حسنا، ان فی ذلك لآیة لقوم یعقلون» [5] .

و یقول تبارك اسمه: (و تلك الأمثال نضربها للناس و ما یعقلها الا العالمون) [6] .

و یقول سبحانه و تعالی: (ان فی خلق السموات و الأرض و اختلاف اللیل و النهار لآیات لأولی الألباب) [7] .

و لقد شدد الله تعالی علی اولئك الذین أهملوا عقولهم و شردوا فی مناهات الضلال، یقول سبحانه و تعالی: (و مثل الذین كفروا كمثل الذی ینعق بما لا یسمع الا دعاء و نداء صم بكم عمی فهم لا یعقلون) [8] .

و یقول جل شأنه: (ان شر الدواب عند الله الصم البكم الذین لا یعقلون) [9] .

و یقول تبارك اسمه: (و لقد ذرأنا لجهنم كثیرا من الجن و الانس لهم قلوب لا یفقهون بها و لهم أعین لا یبصرون بها و لهم آذان لا یسمعون بها اولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون) [10] .

و یقول الله تعالی فی أصحاب النار الذین عطلوا المعرفة التی منحها الله تعالی ایاهم، فضلوا و كفروا: (و الذین كفروا بربهم عذاب جهنم و بئس المصیر -
اذا القوا فیها سمعوا لها شهیقا و هی تفور - تكاد تمیز من الغیظ كلما القی فهیا فوج سألهم خزنتها ألم یأتكم نذیر - قالوا بلی قد جاءنا نذیر فكذبنا و قلنا ما نزل الله من شی ء ان أنتم الا فی ضلال كبیر - و قالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا فی أصحاب السعیر - فاعترفوا بذنبهم فسحقا لأصحاب السعیر) [11] .

و من هنا كانت التكالیف الشرعیة منوطة بأصحاب العقل من الناس فمن زایله العقل لمرض أو جنون، أو كان صغیرا لم یبلغ الحلم فلا تكلیف علیه [12] .

و اذن فان الدین مرتبط بالعقل أشد الارتباط و أوثقه، و انه لا دین بغیر عقل، اذ الدین أساس المعرفة، و لا معرفة اذا لم یكن هناك عقل یدرك و یمیز بین المدركات، خیرها و شرها. صحیحها و سقیمها، و حقها و باطلها [13] .

و مع الدكتور عبدالكریم الخطیب نقول: [14] (اذا كان بعض الناس قد غالی بسلطان العقل، و جعله الحاكم علی أحكام الدین المنزلة من عند الله، بمعنی أنه یعرض أحكام الدین علی عقله أولا فما قبله هذا العقل اجازه و ارتضاه، و ما رده العقل طرحه و لم یأخذ به - نقول: اذا كان بعض الناس یذهب بالعقل هذا المذهب، فان ذلك یعد ظلما للعقل نفسه، اذ یحرمه التلقی من صدر العلم كله المنزل من عند الله علی رسول الله، فیكون أشبه بالصبی الذی یقدم نفسه علی أستاذه، أو كالمریض الذی یری أنه أقدر من الطبیب علی معرفة الداء، و وصف الدواء.. و هذا من الغرور الذی یلقی یصاحبه فی التهلكة!!
و یبدو ان الأستاذ بیكار و أمثاله، قد تصوروا أنهم أقدر من الطبیب علی معرفة الداء الذی یصوره فی رسالته، فذهب الی اختراع دین جدید ینضوی تحت الوائه هو و أمثاله من الذین اطلقوا علی أنفسهم اسم «البهائیین»، فكان فی عبادة «المازندرانی» البشر الضعیف أكبر دلیل علی احتقار العقل و الفطرة النقیة. و هذا الانقلاب من النقیض الی النقیض.. من البحث العقلی الذی یفضی الی الایمان بالله الواحد الاحد.. الی اهمال العقل و الاندفاع وراء الغرور و عبادة البشر.. هذا الانقلاب أسوأ حالا من المغالاة فی سلطان العقل، ذلك ان هؤلاء یهملون عقولهم و لا یشعرون بمكانها منهم، و لا یردون بها مورد العلم و المعرفة، و اذا هم یصبحون - كما أصبح البهائیون جمیعا - مجرد «أمعات» یقادون لكل من یقودهم و لو الی الهاویة!

و فی المأثور: «لا یكن أحدكم امعة، یقول أنا مع الناس، ان أحسنوا أحسنت، و ان اساءوا أسأت، و لكن لیقل أنا مع الحق حیث كان».

و النتائج العلمیة لعلم النفس التجریبی تظهرنا علی أن خیر الناس و أهداهم سبیلا من كان معه عقله حیث كان، ینظر به فی كل أمر یعرض له، نظرا و اعیا متدبرا. فاذا كان هذا الأمر من الله تعالی أسلم عقله له، و أخضعه لما جاء الله تعالی به، موقنا ان ذلك هو الحق الذی لا ینازع فیه، سواء و افق عقله أولم یوافقه.. أما اذا كان هذا الأمر مما تتوارد علیه عقول الناس، فهو شریك لهم بعقله فیه، یحاجهم بما عنده، طالبا للحق، من غیر تعصب لرأیه، أو طلب للغلبة، أو اتباع للهوی و ذلك هو شأن العقلاء الراشدین من الناس.

یقول الدكتور محمود حسب الله: «و الاسلام دین عقلی، لأنه قد راعی قوانین العقل، فی كل ما جاء به من شرائع و عقائد، ثم تحاكم الیه فیها، فقضایاه، و أحكامه، و تكالیفه، و أوامره و نواهیه، و كل ما جابه به، معقولة كلها، و موجبة للعقل، و معروضة علیه، و یقبلها حیبن یقبلها عن بیتة و تدبر، و اختیار. و ذلك لأنه
مطمئن الی صحة كل ما فیه، من شرائع، و عقائد، و واثق من أنه لیس فیها ما یأباه العقل، و یستعصی علی الفهم. و لیس علی المرء أن ینظر فیه بتدبر و امعان، مجردا عن الهوی و التعصب، و من كل الأفكار المغرضة، لیری كیف أنه أی الاسلام یتفق و قوانین العقل الخالص، و یستجیب للمنطق العام و السنن العامة، و لیس علی الجماعة أو الدعاة الا ان تهیی ء للمرء سبیل هذا النظر، حتی یؤمن - ان شاء - عن بینة، أو یكفر - ان شاء - عن بینة كذلك، و كلا من الكفر و الایمان عمل عقله و ارادته، و نتیجة تدبره و اختیاره، و لذا كان مسئولا عنهما، و لذا صح أن یثاب أو یعاقب، و لذا لم یكلف كل من المجنون و الصبی، و المضطر، بل من یعقل الخطاب، و یقدر علی التنفیذ» [15] .

یقول الله تبارك و تعالی: (و قل الحق من ربكم فمن شاء فلیؤمن و من شاء فلیكفر) [16] .

و قال جل شأنه: (لا اكراه فی الدین قد تبین الرشد من الغی فمن یكفر بالطاغوت و یؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقی لا انفصام لها) [17] .

و قال سبحانه لنبیه الكریم علیه السلام: (فذكر انما أنت مذكر - لست علیهم بمسیطر) [18] .

و قال تبارك اسمه: (فانما علیك البلاغ و علینا الحساب) [19] .
و قال سبحانه و تعالی: (أفأنت تكره الناس حتی یكونوا مؤمنین) [20] .

و نحن لا نكره الأستاذ بیكار علی أن یكون مؤمنا، و لا نكره البهائیین علی العودة الی الحق، ذلك ان الدین الاسلامی عقیدة ترفض الاكراه، و ترید لمن یعتنقها أن یقوم هذا الاعتناق علی العقل، و انشراح الصدر، و اطمئنان القلب، فاذا كانت البهائیة تكره الناس علی اعتناقها - كما تبین من تاریخ صانعیها فی القرن الماضی - بالقوة و الاغتصاب العقلی، فان الاسلام لا یقبل هذا الاكراه، و انما یقبل الایمان العقلی، الذی یهدی الی الله تعالی، و الی الاقرار بوحدانیته، و الی رفض عبادة البشر، سواء كان «بهاء الله» مدعی الربوبیة أو غیره من أصنام المذاهب الوضعیة الهدامة.

و نذكر فی هذا السیاق ما قاله «أحد العقلاء المشهود لهم بسداد الرأی و حسن التقدیر للأمور و ان كان من غیر «المسلمین» علی حد تعبیر د. الخطیب، و الشاهد الذی نورد أقواله هنا هو السیاسی الایطالی المعروف: ما تزینی» الذی كان من رجالات اوربا المعدودین فی القرن الماضی: یقول «ما تزینی» فی مقام الحدیث عن «الله» سبحانه و تعالی: «ان الله موجود.. و لست أحاول الیوم البرهنة علی وجوده..

«الله موجود لأننا موجودون، و هو موجود فینا، و فی شعور الانسانیة جمعاء، و فی كل ما یحیط بها من عوالم.. و أنا لنشعر بذلك فی كل الأوقات.. فنشعر به فی ساعات الضیق و الشدة، كما نشعر به فی حالات السرور و النعمة..

«و لم یكن أول ملحد فی الأرض، الا أحد المجرمین الذین أخفوا اجرامهم عن كل الناس، و ظنوا أنهم یتخلصون بانكارهم لوجود الله من شهادة الشاهد الذی لا تخفی علیه خافیة..
و لعل هذا الملحد كان من الجبارین الذین یعیثون فسادا فی الأرض، فتحكموا فی أرواح الناس و فی حریاتهم و حاولوا أن یتحكموا كذلك فی توجیه خضوعهم و عباداتهم، فألهوا أنفسهم، أو الهوا ما شاءوا من المواد و الطبائع.

«و لقد جاء بعد هذا الصنف من الناس، آخرون، أدی بهم الانحراف الفلسفی، و قصر النظر الی تكوین نظریات الحادیة، و كانوا من القلة یمكان فمنحهم الخجل و الحیاء من الظهور!! (و ان كان الخجل و الحیاء لم یمنع الباب و البهاء اللذین ادعیا النبوة فالألوهیة من أكاذیبهما الملفقة للتغریر بأصحاب العقائد).

«و جاء بعد هؤلاء آخرون، انكروا وجود الله، لما رأوا من الأفكار البدائیة و المبادی ء اللامعقولة التی تحیط باسمه، و التی تنسب الیه (و هو یشیر بهذا الی ما یدخل علی الدین الحق من ضلالات الضالین و سفاهات السفهاء، و أصحاب الاهواء و البدع كأصحاب البابیة و البهائیة و الفادیانیة) و لكن لم یكن ذلك الانكار الا لأجل محدود، لم یتخلصوا اثناءه من كل أنواع العبادات، بل عبدوا الطبیعة أو العقل،

«و یبغض الآن كثیر من الناس الأدیان، لما اتصل بها من فساد و انحطاط من غیر تفرقة بین الخبیث و الطیب (كتب هذا الكلام فی القرن «19» الذی ظهرت فیه البهائیة، و ما تزینی یتحدث عما كان یراه من متناقضات فی الدیانة المسیحیة التی تسلط علیها رجال الدین، فأفسدوها بتأویلاتهم، طلبا للتسلط علی اتباعهم. و لا ندری ماذا كان یمكن أن یقول لو أطلع علی التأویلات و التحریفات التی جاءت بها البهائیة لتلمس معالم الأدیان السماویة و لا سیما الاسلام و المسیحیة).

ثم یواصل «ما تزینی» الحدیث قائلا: «فلما رأوا أن من القسیسین و رجال الدین من یدنس اسم الله لقاء دراهم معدودات، و یفاضل بین الله
و الانسان، و یفضل جانب الأخیر عندما یدعوه النظر القاصر الی ذلك (علی نحو ما صنعت البهائیة)، و رأوا ان رجال الدین قد استغلوا القوة أداة بطش و جبروت اخضاع الضعفاء و ذوی الحاجة، لما رأوا ذلك و أمثاله أنكروا الأدیان، و لكنهم لم یكونوا علی حق فی ذلك، فلیس لنا أن ننكر وجود الشمس، و أثرها فی الحیاة الأرضیة، حین یحجبها عنا البخار المتكاثف، و لیس لنا أن نرفض الحریة الشخصیة و نلعنها لأن بعض الأشخاص یستغلونها استغلالا سیئا، و لیس لنا أن ننكر الأدیان كذلك لأنه قد اسی ء استعمالها أو دخلها كثیر من الأباطیل و الأكاذیب، بفعل الانسان. (و علی نحو ما تحاول البهائیة دسه علی الأدیان السماویة من اسرائیلیات و تعریفات و تأویلات بهدف القضاء علیها - و لن تستطیع -). ذلك لأن هذه الادیان السماویة لها من القوی الذاتیة ما یضمن لها الخلود، علی الرغم مما یلصقه الناس بها من أباطیل و أوهام. و لابد أن یموت الكذب یوما و لابد أن تقتضح الأباطیل، و ینكشف أمرها، و یبقی اسم الله مطهرا من جمیع الأرجاس، و خالدا أبد الآبدین».

هذا ما یقرره رجال من العقلاء، تجرد من الهوی، و نشد الحق فانكشف له - ما نرجو أن ینكشف اللأستاذ بیكار و لكل بهائی - ما فی دینهم المصنوع من زیف، و من تأویلات لا یقبلها عقل عاقل، مثل ادعاء البهاء أنه رسول و قد ختمت الرسالة بمحمد علیه الصلاة و السلام، و بمثل ادعائه الربوبیة بعد ذلك، و هو ادعاء لا یقبله عقل سلیم و لا فطرة نقیة.

و اذا كان ما تزینی یشیر الی الصراع بین العلم و الدین المسیحی الذی أخرجه رجال الكنیسة من دائرة العقل، بما اولوا و حرفوا، فان الاسلام یفسح فی رحابه مكانا مكینا للعقل، و یدعوه الیه، مكرما له، حتی یشهد وجه الحق مشرفا، فیقبس من أنواره و یقطف من ثماره ما یمد، بأسباب القوة، و یبلغ به مبلغ الرشد، و اذا هو قبس من أقباس العلم المستمد من نور الله.
و نقابل شهادة «ما تزینی» بشهادة «د. هنری لنك» الذی أشرنا الی كتابه (العودة الی الدین)، لمالها من دلالة فی هذا السیاق، و هی الشهادة التی جعلته یؤید هذا الصراع بین العلم و الدین المسیحی یقول: «كنت عندما التحقت بالجامعة و رعا تقیا، فأنا مولع بدینی منذ نعومة أظفاری، أتأثر بتعالیمه و أواظب علی مناسكه، و لا اتخلف عن مواقیت الصلاة، و لا أتوانی عن تقدیم كل معونة فی سبیله حتی بلغ بی الأمر أن صرت ألقی دروسا دینیة بین وقت و آخر، و بمعنی آخر كنت شابا متدینا متطرفا، قد تناول جرعة دینیة بالغة القوة.

«و قد اشتهرت الكلیة التی التحقت بها بأن ثمانین فی المائة من خریجیها یلتحقون عادة بالوظائف الدینیة. و لقد لمست فیها شدة النشاط الدینی و عنفه، و لما كنت شغوفا بالعلم و المعرفة و البحث عن الحقیقة شعرت أن الجو العقلی السائد هناك خانق. و مما زاد الطین بلة انتشار فضیحة العلاقة الغرامیة بین عمید الكلیة و رئیسة الراهبات، فأججت هذه القصة كثیرا من الشكوك التی كانت تنتاب ذهنی المكدود، فالتحقت فی السنة التالیة بكلیة أخری من كبریات الكلیات فی شرق أمیركا، حیث بدأت أدرس تاریخ الفلسفة و التربیة الدینیة، أما تاریخ الفلسفة فهو قصة تحرر العقل البشری من الخرافات و الأوهام الدینیة المضللة. و قد لازم میلاد العلوم و ظهورها استشهاد تلك الجمهرة من العلماء التی اجترأت فتطاولت علی الكنیسة مسفهة عقائدها. و قد قامت هذه الدراسة علی تمجید العقل أی ربط الأسباب بالمسببات. فكل حادث ما هو الا حلقة من سلسلة الأسباب و المسببات [21] التی لا تنقطع بعكس المیل السائد لدی كبار رجال الكنیسة الاولی أمثال ترتولیان Tertullian الذی قال «لابد لی من الایمان بتعالیم الكنیسة یرغم سخافتها»، فأظهرت هذه الدراسة التناقض بین زهد المسیحیین الأولین
و انكارهم لسرمدیة الحیاة، و بین وثنیة الاغریق و اغراقهم فی اشباع شهواتهم و تحقیق مبدأ اللذة و الامتاع، و أظهرت كیف تطورت الطقوس الدینیة و النظریات و المذاهب الكنسیة تبعا لمجریات القوی السیاسیة، و ظهور الشعوب و اندثارها. كما أسهبت فی وصف أثر كل من علوم الطبیعة و الكیمیاء و الاحیاء و طبقات الأرض، الواحد تلو الآخر، فی تزوید الأذهان، و تبدید الأوهام، فأزاحت الستار عن مغالطة العقائد الدینیة و سفسطتها.

لذلك كان هذا الشوط من الدراسة هو أمتع و أبهر ما تلقیت، و أعظمها تأثیرا علی، لأنه كان الجواب الكامل عن تلك الشكوك الدینیة المختلفة التی ساورتنی من قبل، و لم أهتد الی حل لها یقنعنی، فخرجت من ذلك كله باحترام عمیق لقوة العقل، و لمكتشفات العلم الحدیث. أما عقیدتی الدینیة فهوت لما لم تجد ما تستند علیه، و لما لم تصادف من یتلقفها.

و فی العالم الدراسی نفسه درست التربیة الدینیة، و كانت هذه الدراسة عرضا تاریخیا للتطور، الذی حل بالكتاب المقدس، فعرفنا الطریقة الفاسدة التی اكتمل بها هذا الكتاب، و لمسنا فی الأسفار التی درسناها الدلائل القاطعة علی أن رجال الدین الواحد تلو الآخر، أخذوا یعبثون بالكتاب، فیعیدون كتابة بعض أجزائه مضیقین الیه ما یعن لهم، و لذلك قسمت محتویات «العهد الجدید» الی ثلاثة أقسام متساویة: تلك المقطوع بصدقها أی التی جاءت عن لسان المسیح، و تلك المشكوك فیها، و تلك التی زیفت علی مر الأیام.

فكانت هذه الدراسة - التی جعلت كل ما سبق ان اعتنقته من مبادی ء الكتاب المقدس یبدو صبیانیا أمام ناظری - خیر مثل لما كانوا یدعونه و قتئذ: «النقد العالی».

و لیس هناك ما یدعو بطبیعة الحال الی ذكر كل ما درسته بالجامعة، غیر أن هناك مادة واحدة تستحق الذكر، و هی مادة علم دراسة الأجناس، و قد كانت
هذه المادة أكثر المواد شیوعا و أشدها هدما، أكثرها شیوعا لسهولة تمضیة امتحاناتها، و أشدها هدما لأنها كانت بعیدة الأثر فی قلب عقائد الطلبة الدینیة راسا علی عقب. و قد بلغت هذه المادة الذروة فی الهدم خلال تلك المحاضرة التی رسم فیها الأستاذ دائرة صغیرة تحوطها دائرة أكبر ثم قال:

«تشتمل هذه الدائرة الصغیرة علی مملكة الحقائق العلمیة التی نلم بها الماما تاما، و تستطیع اثباتها، أعنی حقائق علوم الطبیعة و الكیمیاء و الریاضیات، فمثلا یمكننا اثبات وجود عناصر كیمیانیة معینة. أما هذه المساحة الكائنة بین الدائرتین الكبری و الصغری فهی میدان الحقائق الثابتة ثبوتا جزئیا، و أنصاف المعلومات، و مثل ذلك أننا نعتقد بوجود عناصر أخری یرغم أن هذه المعرفة غیر مؤكدة. أما ما هو خارج عن هذه الدائرة الكبری فهو مملكة الخرافات و العقائد و الأوهام التی لا نملك لها برهانا، ففكرة الله و المعتقدات الدینیة تسبح فی هذه المنطقة غیر المحدودة، و نحن لا یمكننا اثبات وجود الله كما لا یمكننا اثبات عدم وجوده، و قیاسا علی ذلك لا یسع المرء اللبیب الا أن یقول «أنا لا أعرف» أعنی أن یكون لا ادریا.

و لوضع الحق فی نصابه اعترف أن بعض أساتذتی كانوا متدینین الی أبعد حد، و كانت الكنیسة التی نتردد علیها یوم الأحد مرغمین، تكتظ بالوعاظ الممتازین، و مع ذلك كان ربط الأسباب بالمسببات، و تحریر عقولنا، هو هدفنا الأسمی، فانقسم الطلبة قسمین: اما أحدهما فغبی لا یهتم كثیرا بما یقوله الأساتذه، و بمعنی آخر لا یفهم ما یتلقاه، و أما الثانی فمتفتق الذهن یسعی مجدا وراء الحقیقة، فكلما زاد غباء الطالب بقیت عقیدته ثابتة لا تتزعزع فی زاویة محكمة الأغلاق لا تتسرب الیها نفحات الدراسة التی یتلقاها، و كلما كان مقیاس ذكائه [22] عالیا نفض عن نفسه غبار العقیدة، و لجأ الی التحلیل الصادق سعیا وراء الحقیقة.
و لما تخرجت فی هذه الجامعة بعد أن نلت شهادة «فی بیتا كابا» [23] كنت ملحدا و مقتنعا تمام الاقتناع بالحادی، و مستمدا لاقناع غیری به، و هكذا فی العشرین سنة التالیة كنت أبالغ فی احتقار التعالیم الكنسیة و أومن بأن الدین هو ملجأ العقول الخاملة.

و من هذا یتضح أن علم النفس الحدیث القائم علی أساس الریاضیات و الأرقام، و الذی یطبق علی البشر لا علی الورق، هو الذی قلب آرائی و مبادئی رأسا علی عقب دون أن أشعر بالتطور الذی حل بی من مدة طویلة.

و هنا لا یجوز الخلط بین هذا العلم، و بین التحلیل النفسی، الذی أدی الی ظهور نظریات تأملیة لا یمكن الجزم بصحتها كلها كالتعبیر عن الذات و القمع و الأحلام و العقل الباطن و اللبیدو [24] و عقدة النقص و التربیة التقدمیة.. الخ. و ما أقل ما یعرفه الناس عن علم النفس العلمی الذی بلغت دقته الدرجة التی وصلت الیها الكیمیاء و الطبیعة منذ قرن من الزمان، و برغم أنهم سمعوا عن اختبار الذكاء أو مقایس الذكاء، الا أن القلیلین منهم هم الذین یدركون أن هناك أكثر من 10000 اختبار نفسی أجراها رجال علم النفس، و ان معظم هذه الاختیارات تستخدم الان فی الحیاة العامة و القلیلون أیضا یعلمون أن مؤسسة رو كفلر قد وهبت جماعة من علماء النفس نصف ملیون دولار لاكتشاف اختبارات التعاون المستخدمة الآن بمعظم المدارس، و قد قضی أساتذه علم النفس فی جامعة مینیسوتا خمس سنوات فی بحث متواصل حتی اهتدوا الی استنباط ثلاثة
اختبارات لقیاس مدی كفایة المرء الآلیة، و استعداده الطبیعی لاستخدام الأجهزة الآلیة، أنفقت فیها مائة ألف دولار تبرع بها مجمع الأبحاث الوطنی و غیره من المؤسسات.

و یكاد الجمهور الذی ینفق ملایین الدولارات علی دراسة الموسیقی لا یعرف شیئا كذلك عن دقة اختبار سیشور لاكتشاف المواهب الموسیقیة الفطریة فی الانسان، و قد وضعه بعد بحث مجهد دام خمسة و عشرین عاما، بمعاونة عدد من رجال علم النفس المساعدین. و قلیلون أیضا هم الذین سمعوا عن الجهاد العنیف الذی بذله أمثال و دورث و ثیرستون و ألبورث و ولز و روث و برنوویتر فی مجال الشخصیة وحدها.

و هكذا ظهر تحسن ملحوظ فی القدرة علی تفهم الشخصیة، و ترقیتها، و التقدم بها، بواسطة الاختبارات المتقدمة الذكر و استخدامها فی علاج المرضی بالعیادات الطبیة، فقد أجری اختبار قیاس الشخصیة وحده علی حوالی نصف ملیون نفس عام 1935 فی عیادات الولایات المتحدة و مدارسها.

هذا الفرع من علم النفس هو الذی أدت مكتشفاته الی تبدیل معتقداتی الدینیة، و هی - كما سبق أن أوضحت - تختلف عن تلك النظریات الجذابة الشائعة بین الناس. كما أنی قد قدمت الی هذا النوع من علم النفس العلمی الكثیر من المعونة فحازت القبول، أما مكتشفاتی التی سیرد ذكرها فیما بعد فلم تكن ممكنة التحقیق بدون تلك التجارب العملیة التی قام بها غیری من العلماء النفسیین، و أما كون النتائج المستخلصة من هذه الدراسات تؤید بل تطابق بعض المعتقدات الدینیة الاساسیة فهذا ما سیلمسه الجمیع حتما بمرور الزمن.

و لقد طبقت مكتشفات علم النفس تطبیقا واسع النطاق علی معظم المشكلات الانسانیة، فقد أجرت مصلحة تشغیل المتعطلین بمدینة نیویورك اختیارا نفسیا علی 15321 نفسا من الرجال و النساء المتعطلین فی فترة لا تتجاوز سنة عشر شهرا.
و فی ضوء هذه الاختبارات أمكن توجیه كل منهم الی المهنة المناسبة و التدریب المطلوب له حتی یصیر لائقا لهذه المهنة.

و فی كثیر من الأحیان كانت هذه النصیحة تقدم استنادا علی المشكلات و العقد المكتشفة فی شخصیة كل منهم، و التی تكون عادة السبب الأساسی فی تعطلهم، و قد تكلفت هذه العملیة أكثر من مائة ألف دولار، تبرعت بمعظمها مؤسسة كارنیجی، و جمعیة مساعدة العمال العاطلین بمدینة نیویورك. و لما كنت قد عینت مستشارا خاصا فی هذه العملیة و نیط بی وضع الخطط و مراقبة الدراسات الاحصانیة المستخلصة العشرة آلاف نفس، ممن أجری علیهم الاختبار، فقد أجریت علیهم ما قدره 73226 اختبارا نفسیا، و سجلت تقریرا شخصیا شاملا لكل فرد منهم، و فی هذا الوقت بالذات بدأ ادراكی لأهمیة العقیدة الدینیة بالنسبة لحیاة الانسان، و وجدت من نفسی استعدادا لمضاهاة تجاربی السابقة علی مرضای، بالنتائج الباهرة التی أتت بها تلك الاختیارات العظیمة التی تولیت الاشراف علیها، و قد استخلصنا من هذه الاختبارات نتیجة هامة و لو أنها لم تنشر فی التقریر النهائی. و هذه النتیجة هی أن كل من یعتنق دینا أو یتردد علی دار العبادة یتمتع بشخصیة أقوی و أفضل من لا دین له أو یزاول أیة عبادة.

و علی ذلك لم تكن رجعتی الی الدین رجعة الضال الذی اهتدی الی دین صائب، أعنی أن هذه الرجعة لم تصاحب شعورا متوقدا أو تعرة عاطفیة، لكنها كانت رجعة عن طریق العقل فحسب لسوء الحظ! و لاأظن أن كافة المتدینین یقرون هذه الحقیقة، حتی أنا نفسی لا أعتقد أنها الطریقة المثلی، ففكرتی عن الدین تتضمن بضع معتقدات لا تؤیدها مذاهب دینیة معینة، و تنبذ بعض الآراء التی تراها مذاهب معینة جوهریة، اذن.. فما هو الدین؟

الدین هو الایمان بوجود قوة عظمی كمصدر للحیاة، هذه القوة هی قوة الله، مدبر الكون، خالق السماوات، و هو الاقتناع بالدستور الخلقی الالهی الذی سنه
الله فی كتبه المتعاقبة، و اعتبار التعالیم السماویة أثمن كنز تغترف منه الحقائق الدینیة التی هی أسمی فی مرماها من العلوم كلها مجتمعة، و القیم الخلقیة هی أقوی فی أساسها من نظریة العقل أو السببیة السالفة الذكر. فأنا مثلا أومن بصدق روایة مولد السید المسیح، و لكن لیس تصدیقی لهذه الروایة نتیجة لمقارنة عقیدتی الدینیة بغیرها من العقائد، و لكنه ایمان خالص جاء فی أعقاب اهتدائی الی المزایا الصحیحة فی دینی، الذی سبق أن نبذته لما كنت عاجزا عن اكتشاف ما به من الخیر.

و كثیرا ما كنت أحث مرضای من الكاثولیك لیكونوا أشد كثلكة، و خصوصا فی مسألة الاعتراف التی أراها فریدة فی فائدتها النفسیة. و كنت أشجع مرضای من غیر المسیحیین علی التردد علی معابدهم و منشآتهم الدینیة، فكنت أنحو هذا النحو فی كل هذه المراحل، علی أساس مطالب الأفراد و ضرورة استخدام الوسائل الممكنة فی هذا السبیل.

و من هنا تری أن عودتی الی الدین كأحد أفراد المجتمع لیست بذات أهمیة فی حد ذاتها، انما المهم هو مكتشفات علم النفس العلمی الحدیث التی كانت السبب فی هذا التحول. و بالرغم من المزایا العظیمة التی اسبغتها العلوم الطبیعیة علی المجتمع البشری سواء فی اعانته علی اطالة العمر أم علی توفیر سبل الراحة، أم علی تخفیف آلام الأمراض، أم علی مل ء الحیاة بهیئات التسلیة و السرور، أم علی تعمیم فرض التعلیم، فلن تجد أی دلیل علی أن الناس أصبحوا أوفر سعادة، او أن الأسر صارت أشد ارتباطا، و او أن الحكومات و الدواثر السیاسیة باتت أكثر حكمة و تعقلا، او أن الأمم أضحت أكثر تجنبا للحروب. ان الدلیل الملموس یقودنا الی الاعتقاد بعكس هذه النتیجة، فمثلا، فاق عدد الشعوب و الجنود التی كانت مشتركة فی القتال بین عامی 43 و 1945 أی رقم سجلته الحروب منذ خلق هذا الكون.
و بینما العلم كله یتلظی بجحیم هذا الأتون الملتهب، كانت الولایات المتحدة تعانی من الاضرابات و حرب الطبقات و الصراع الدنی ء للوصول الی الحكم، كما كانت تعانی كذلك من تفكك عری الأسرة الأمریكیة و انفصام الروابط الزوجیة من جراء حوادث الطلاق العدیدة التی سجلتها المحاكم. و قد ثبت خلال عام 1938 ان 47 درصد من أسرة المستشفیات بالولایات المتحدة كانت تشغلها حالات عقلیة. و مثل هذه الحالات هی التی تبین مدی الاخفاق الذی لحق بالمجتمع، و ان كنا نلمس آثار هذا الاخفاق و أعراضه فی استمرار السعی الحثیث للعثور علی تریاق السعادة و الهناء، حتی لیكاد عصرنا الذی نعیش فیه یتمیز بأنه عصر البحث عن السعادة.

و اذا كنت سأتناول بعض هذه المساعی بالبحث فیما بعد فی فصلی «الحیاة الوفیرة» و «التدبیر الاجتماعی» الا أنی لن أحید عن الدور الذی یلعبه رجل علم النفس فی مثل هذه الأحوال، و حسبی ان أبین معناها النفسی بالنسبة الی أفراد المجتمع.

لقد أدت دراستی العمیقة للأفراد الی مشاهدتی ذلك القبس المضی ء من نور الهدایة، و سواء كان أمل الانسان هو فی الحصول علی الوظیفة اللاثقة أم الأمن الاقتصادی أم الاطمئنان الاجتماعی أم السعادة الزوجیة، فلن یعم الرخاء الا اذا حارب الناس أسلوب الحیاة الراهنة و المجتمع الحالی حربا لا هوادة فیها، توقد جذوتها عدة من المثل العلیا العملیة الصادقة.

فالدین الذی أتكلم عنه لیس ملجأ الضعفاء، و لكنه سلاح الأقویاء، فهو وسیلة الحیاة الباسلة التی تنهض بالانسان لیصیر سید بیئته المسیطر علیها، لا فریستها و عبدها الخانع.. [25] .
هذا الدین الذی ینشد فیه الدكتور هنری لنك، أن یكون سلاحا للأقویاء، و وسیلة للحیاة الباسلة التی تنهض بالانسان لیصیر سید بیئته المسیطر علیها، لا فریستها و عبدها الخائع، انما هو دین الاسلام، الذی جاء فی كتابه الكریم قول الله تعالی: (و اعدوا لهم ما استطعتم من قوة و من رباط الخیل ترهبون به عدو الله و عدوكم و آخرین من دونهم لا تعلمونهم الله یعلمهم) [26] (و ان جنحوا للسلم فاجنح لها و توكل علی الله انه هو السمیع العلیم). [27] .

آیتان تدعوان الی القوة فی مظهریها، الحرب و السلم، لا تناقض فكما ان الحرب مظهر ما أی للقوة، فان قرار السلم قوة، نزولا علی أمر الله تعالی.. و یفصل الشیخ عبد اللطیف السبكی أسباب نزول هاتین الآیتین التی تكشف عن حكمة القرآن فی بناء مجتمعه علی القوة، و السلم فقد كان فی المدینة و حولها یهود یعیشون الی جانب المسلمین فی رغد، و فی أمن، و لهم قدم راسخة فی هذا الوطن.

و ما استقر الاسلام فی المدینة تظاهروا بالمسالمة أكثر، و عقدوا مع النبی عهودا علی الأمان، و ألا یظاهروا علی المسلمین عدوا من أعداء الاسلام و ما كادت غزوة بدر تنتهی بنجاحها علی قریش مع قلة من جیش المسلمین و كثرة الكافرین حتی ثار الحقد فی نفس الیهود، و استكثروا علی محمد أن یظهر شأنه، و هو عربی و لیس من بنی اسرائیل.

و نوجسوا أن هذا الانتصار الباهر، له ما بعده من نجاح الاسلام، فهونت علیهم الأحقاد، و خبث الطباع أن نقضوا عهودهم طائفة بعد أخری.

أ) فبنو قینقاع یبدءون بالسفه علی النبی و أصحابه، و یتهیئون لحرب المسلمین معتصمین بالحصون المنیعة، فحاصرهم النبی فی حصونهم هذه،
وضیق علیهم، حتی رضوا ان ینزلوا من الحصون علی حكم النبی فیهم بما یری.

فحكم بتجریدهم من أموالهم غنیمة للمسلمین، و باخراجهم سالمین من القتل الی جهة اذرعات من بلاد الشام بعیدین عن الحجاز كله، و ظلوا هناك حتی بادوا جمیعا.

ب) و بنو النضیر- و هم الطائفة الثانیة من الیهود- ینتهزون جلوس النبی عندهم للتفاهم معهم علی أمر، مطمئنا الی عهدهم، فیدبرون الحیلة العاجلة لقتله غیلة بالقاء حجر علیه من فوق منازلهم.

و لكن الله - تعالی - یعصم رسوله من خیانتهم، و یخبره الوحی بتدبیرهم، فینصرف عنهم، و ینجو من شرهم، ثم یجاهرون بالاستعداد لحربه، فیحاصرهم كذلك أیاما كانت نحسات علیهم، حتی ارتضوا ان یخرجوا من المدینة بقلیل من أموالهم - دون سلاح - الی أرض خیبر مع زعیمهم حسین بن أخطب.

ج) و كذلك فعلت قریظة - و هی أشد الیهود عداوة للاسلام و أهله. حضر الیهم من خیبر - زعیم النضیر: حسین بن أخطب.. ثم دلفوا الی قریش فی مكة و سواها، و حالفوهم علی تكوین جیش منهم و من أحزابهم الحرب المسلمین فی المدینة.

فكان من أثر صنیعهم هذا غزوة الاحزاب و هی غزوة الخندق.

و لما تبین للمسلمین تكاتف الاحزاب مع قریش و من یوالیها حفروا حول المدینة خندقا یعوق عن دخولها، و اكتفوا بالدفاع من داخل الخندق.

و لما اجتمع القوم و وجدوا ذلك الحاجز فی طریقهم رابطوا علی جانبه، و منعوا المسلمین من الخروج عن المدینة الی أسفارهم، أو مراعیهم، و متاجرهم.

و صاروا یناوئونهم بالسهام و النبال حتی أحس المسلمون بشی ء من الجهد.
ثم سلط الله علی الأحزاب أسباب الهزیمة المفاجئة، فعصفت بهم الریح، و اجتاحتهم زوابعها، و أطاحت بخیامهم، و امتعتهم، و بددت شملهم علی شر ما وقت بهم من خزی و هوان (ورد الله الذین كفروا بغیظهم لم ینالوا خیرا و كفی الله المؤمنین القتال و كان الله قویا عزیزا) [28] و فی نفس الیوم، و عقب فراغ النبی من الخندق نزل علیه الوحی ألا یضع سلاحه، فان الملائكة لم تضع أسلحتها.

أمر النبی صلی الله و سلم بلالا أن یؤذن فی الناس: من كان سمیعا فلا یصلین العصر الا فی بنی قریظة.

ثم حاصرهم النبی صلی الله علیه و سلم خمسا و عشرین لیلة حتی رضوا أخیرا أن ینزلوا علی حكمه فیهم، فتوسطت الأوس لدی الرسول مجاملة لقریظة و كانوا حلفاء لهم من قبل.

فرضی النبی صلی الله علیه و سلم ان یحكم فیهم زعیم الأوس سعد بن معاذ، ففرحت قریظة بذلك و ظنوا أنهم سیظفرون بالخروج مع شی ء من المال، أو سالمین بأنفسهم علی الأقل، و لكن سعد بن معاذ كان أو فی لدینه من هولاءالخونة الذین أسرفوا أكثر من سواهم فی الكید للمسلمین، فقال لبنی قریظة: أترضون بحكمی؟ قالوا: نعم..

فحكم یقتل الرجال جمیعا - و كانوا ألفا - و أن تقسم الأموال بین المسلمین، و ان تسبی النساء والأطفال، و حینئذ قال له النبی صلی الله علیه و سلم لقد حكمت فیهم بحكم الله من فوق سبع سماوات ثم نفذ الحكم، و طهرت المدینة من خبثها، و حقا - هی كما قیل فیها: تنفی خبثها كما ینفی الكسیر خبث الحدید.
بل طهرت أرض الجزیرة كلها من أهل الكتاب جمیعا، و ثم هذا فی عهد عمر رضی الله عنه تنفیذا لوصیة النبی صلی الله علیه و سلم الا یجتمع فی جزیرة العرب دینان، فلم یعد یهودی و لا نصرانی بالجزیرة منذ عهد عمر رضی الله عنه و الجزیرة یومذاك مكة و المدینة و خبیر و الیمامة.

و كانت قریظة شر الجمیع و لعنة الله علی الجمیع.

3- ازاء هذا الانتفاض علی العهود، و التحالف علی المسلمین كان الأمر بحاجة الی رسم سیاسة منیعة تحفظ علی المسلمین حیاتهم و تكفل سیر دعوتهم الاصلاحیة، فلا تتعثر فی حواجز التضلیل، و مقاومة المبطلین.

فالآیة الاولی - تطلب الاستعداد للعدو بتوفیر أدوات الحرب دون وقوف عند غایة، أو اكتفاء بنوع من معدات النضال، بل بكل ما تشمله القوة لفظا، و مدلولا من جنود، و فنون و أدوات، و تخطیط و كل ما یعتبر مجدیا فی النضال، و تهدی الیه سیاسة الحروب.

و لما كانت الخیل أهم ما یستعان به قدیما فی المصاولة، و خفة الحركة صرح بذكرها القرآن: لا علی سبیل الحصر فیها. بل للاهتمام بها اكثر من سواها، كالابل، و الأفیال مما كان یستخدم فی احمل و الهجوم علی العدو قدیما.

و القرآن یحض علی اعداد القوة دون تحدید، فیمتد مفهومها الی كل ما یستحدث علی طول الزمن بواسطة العلم، و الاختراع.

و اذا لاحظنا ان عداوة أولئك الخصوم قد تأرثت فی نفوسهم، و فی أعقابهم، و ان الاسلام غلب حیلهم، و محاولاتهم حتی صار غیر مقدور لهم أن یدرءوا نشاطه، و لم یعد فی مطمعهم أن ینالوا منه مأربا.. اذا لحظنا ذلك أدركنا حاجته الی الحیطة منهم، و الاستعداد لهم.. و الوقایة من الشر سلامة من الوقوع فیه.
و هذا ما صرح به القرآن فی قوله تعالی: (ترهبون به عدو الله و عدوكم و آخرین من دونهم لا تعلمونهم الله یعلمهم). [29] .

و أنت تری فی هذا التوجیه حرصا علی تربیة المهابة للاسلام فی نفوس أعدائه جمیعا، فیكف عنه المناوئون له، و یخشاه المتسترون فی أحضان النفاق، و یتربصون به الدوائر و الأحداث.

و بهذا ینبه الله أهل دینه الی أن لهم خصوصا یختفون فی عدواتهم، و لكن الله یعلمهم وحده، فلا یحسن بنا الاستسلام للغفلة، و المخادعة، و تحسین الظن.

و عند ما یكون الاسلام فی أهبة یخشاها عدوة تتاح للمسلمین حیاة مستقرة الأوضاع، واضحة المعالم، و لا یهابون سفراء الشیطان الذین یحركون العداوات و یبغون الافساد فی الأرض، و هی حیاة أجدی علی الدنیا من حیاة تضطرب فیها الوثنیة، أو العصبیات المختلفة، و لا توجد بینها و شائج روحیة تقضی علی الفوارق الجنسیة، و الاقلیمیة بل تكون حیاة تقتلع الأنانیة، و تركز فیهم نزعة الاخاء الانسانی كما یفعل كل ذلك الاسلام.

فاتجاه الاسلامی الی ناحیة القوة علانیة بأنه لا یتعفف عن و لوج الحرب، و لا یقتصد فی اقتحامها عندما یقتضیه أمر من جانب أعدائه.

و من هذه الناحیة- زعم خصومه أنه دین یفرض نفسه علی الناس بالعنف، و انه لیس دین تفاهم بالعقل و الحجة كما یدعی أهله.

4- و فی الحق أن هذا زعم البلداء و الذین لم یتصلوا بتعالیمه، و لم یعطوه من وعیهم قلیلا، بل هم یتخبطون فی رجم بالغیب، فیستبیحون متابعة المرجفین فیه.
و كثیرا ما تنبه أناس من خصومه الی النظر فی آیاته، و استطلاع مقاصده، فهداهم البحث و الموازنة بین ما فهموه و ما سمعوا عنه الی اعتناقه عن بینة، و اطمئنان، بل شرعوا أقلامهم فی وجوه الآخرین منصفین لهذا الدین العام، الخیر للانسانیة، و بینوا أن الاسلام دین دعوة سلمیة، و لا یبغی من القوة الا أن یحمی نفسه بین موجات صاخبة من مطامع الشعوب، تتفاذف الغواة من شیاطین الأنس یمینا و شمالا.

و هذا تحقیق مستمد من نسق الكتاب نفسه.

5- فبینما یحض علی القوة فی آیتنا هذه یردفها بآیة الترغیب فی السلم و الحض علی الأخذ به (و ان جنحوا للسلم فاجنح لها، و توكل علی الله). [30] .

فأنت تری القرآن یطفی ء وقود الحرب بقبول الصلح مع خصومه اذا طلبوا المسالمة و اقلعوا عن التثبث بالحرب، و العداوة.

و هذا أسلوب الرحمة یكفكف به نیران الحروب و هذه دعوة الانسانیة یرطب بها و هج الخصومة، و یجذب الأنفس الی التقارب فی ظلال السلام.. و فی ذلك خیر للجمیع فاذا لم یكن اقتناع بالدین الذی یحاربونه فلیكن سلام ترف ظلاله علی الحیاة و أهلها و تستقر فی أمنه الأرواح.. ثم حسابهم فیما بعد ذلك الی الله الذی یتولی الجزاء.

و بهذا التوجیه الرحیم یعلمنا الله أن الامر لیس أمر حرب تقام، أو صلح یعقد، فهذه وسائل عرفیة جرت علیها شئون الدنیا.

أما الانتصار و غیره فتدبیر من الله وحده، و قد ینصر الله القلة، و یهزم الكثرة دون قیاس بالعدد، أو الوسائل.
و بهذا یطمئن الله رسوله و المؤمنین فیقول له: (.. و توكل علی الله انه هو السمیع العلیم) ثم یطمئنه ثانیا الی أن الراغبین فی السلم حقا هم فی رعایة الله، و ان المخادعین فی صلحهم هم فی خصومة مع الله.

(و ان یریدوا ان یخدعوك فان حسبك الله) یتكفل الله بك فینصرك علی مخادعیك، و لك سابقة النصر علی الكفار بما جمع الله حولك من الأنصار و المهاجرین فی المدینة حتی ألف بین قلوبهم جمیعا فأصبحوا قوة متآخیة لا یستهان بها، و بهذه القوة زلزل الله الشرك و أهله، و قوض حصونهم، و معالم كفرهم.

و هذه سنة الله مع أولیائه المؤمنین: یؤلف بینهم، و یشد من أزرهم، و یهیی ء لهم حیاة طیبة بقدر ما یكون اخلاصهم لله.

أفبعد هذا الترغیب فی السلام، و طرح الخصومة یظن من یظن أن الاسلام غیر رحیم بالناس، و انه یتهافت علی أرافة الدماء و اشعال الحروب، أهم ینسون ما یفعله یهود الیوم..

6- كثرت فی القرآن آیات القتال، و كثر فیه الأمر یقتال المشركین كافة، و بقتالهم حتی لا تكون فتنة منهم یتغلبون علی دعوة الله عند من یتمكنون من فتنتهم.

و مع هذا فانك تجد القرآن فی موقف الدفاع، فان الحرب قائمة علیه من جهة أعدائه دائما و ما كانوا یهادنونه الا ریثما یستعدون لمهاجمته.

فعلوا ذلك حینما أخرجوا الرسول و صحبه من مكة، و فعلوه یوم أفلتت عیرهم فی عودتها من طریق المدینة، ثم ألفوا جموعهم لحرب المسلمین فكانت الدائرة علیهم فی بدر.

و فعلوا ذلك یوم الأحزاب و یوم الحدیبیة و كل هذه الأحداث استمرار لحرب عدائیة مع المسلمین.. و قدیما یقول الناس: الشر بالشر و البادی ء أظلم.
و ها هو الاسلام ازاء خصومه الیوم یلاقی منهم الغدر و الفتك، و التألب، و الایذاء.. و لیت حكام المسلمین المعاصرین یفطنون الی ما ینبغی الأخذ به؛ تضامن فی الخیر و یقظة من مخادعة خصومهم.. و لا نقول بحرب و لا عصبیة، و انما نقول بحیطة و عبرة.

و اذا لم یكن فیما نتلوه من كلام الله زاجر لنا، و لفتة الی تنظیم صفوفنا فلن یستقیم للعود الأعوج ظل، و لن یبقی علی الفساد و مجانبة الدین ملك، و الله لا یصلح عمل المفسدین.

أجل.. لو قرأ الدكتور هنری لنك فی رحلته الی الدین، ما جاء فی القرآن الكریم لتعرف علی سلاح الأقویاء، و كیف یجعل الاسلام من المسلمین أسیادا لبیئاتهم، لا عبادا خانعین لها، فهم لا یعبدون الا الله تعالی جل شأنه، و یمنحهم التوحید قوة ما بعدها قوة، و یصبح بین الله تعالی و خلقه و شائج ثلاث: روحیة - و مادیة - و خلقیة. هذه الوشائج تصل الانسان بربه و تكشف للعقول عن مبلغ رعایة الله لعباده، حتی یصبحوا أقویاء، و عن تكریمه للأدمیة علی سواها مما فی الأرض جمیعا.. یقول الله تعالی:

أ) الیوم اكملت لكم دینكم

ب) و اتممت علیكم نعمتی

ج) و رضیت لكم الاسلام دینا). [31] .


[1] انظر رد الاستاذ بيكار علي المؤلف في الفصل الاول.

[2] في الحوار الذي أجرته صحيفة المسلمون - العدد 25 - 44 ربيع الاول - 1406 ه / 7 ديسمبر 1989 م سئل الاستاذ بيكار: هل أنت بهائي بالوارثة أي انك نشأت في أسره بهائية فأجاب: لقد نشأت نشأة اسلامية محافظة و متدينة، و حوالي سنة 1928 ميلادية حضرت الي القاهرة للالتحاق بكلية الفنون الجميلة. و كان للعائلة صديق يدعي محمد زين العابدين، و كان بهائيا فكنت أحضر جلساته و استمع الي ما يقال فيها و التي كانت تضم مسلمين و مسيحين كانوا يأتون بأدلة من القرآن و الكتاب المقدس علي أن هناك ظهورا جديدا آسيائي و في الكتاب المقدس ما يؤكد مجي ء محمد عليه الصلاة و السلام و كذلك في الكتب السماوية كلها ما يؤكد بأن بعد محمد سيجي ء ظهور اله آخر و هو ما يطلق عليه المهدي المنتظر و هو ما يتمثل حاليا حسبما تعتقد - في بهاء الله و رسالته. و كنت أولا اعترض علي هذا الفكر اعتقاد بأن محمدا هو خاتم الانبياء و ان الاسلام هو خاتم الاديان الا أنه عن طريق قراءاتي المتأنية في الكتب المقدسة سواء الانجيل أو التوراة أو القرآن الكريم أمنت بما لا يقبل الشك و باليقين الكامل بأن محمدا حق و موجود و موعود في جميع الرسالات السماوية السابقة، كما ان بهاء الله أبضا موجود بنفس الوضوح في جميع آيات الكتاب المقدس و القرآن الكريم باعتباره الظهور الالهي الذي سيأتي بعد محمد، و ان من يكفر بهذا الظهور الالهي الجديد التمثل في شخص بهاء الله كأنه كافر بجميع الديانات السابقة. اذ أن بهاء الله حق وارد في هذه الديانات.

و عندما اصبحت بهائيا بدأت اتردد علي المحفل البهائي، في العباسية بحظيرة القدس و انتظمت في مجالسهم من سنة 1942، و انتخبت في المحفل المحلي لمدينة القاهرة، و كنت رئيسا له في يوم من الأيام، و انتخبت عضوا بالمحفل المركزي حتي صوت نائبا لرئيس المحفل المركزي لمصر و السودان و شمال افريقيا و الي أن صدر قانون 1960 بالقرار الجمهوري الذي حق هذه المحافل فامتنع نشاط المحفل البهائية. و لكن استمر البهائيون كأصحاب عقيدة و مواقع، و هم يتزاورون و يودون بعضهم و يتزاوجون من بعضهم حتي أصبح المجتمع البهائي في مصر أسرة واحدة.

[3] من هذا النص علي لسان الاستاذ بيكار يتضح معني ما تقول.

[4] سورة البقرة، الآية 164.

[5] سورة النحل، الآيات 67 - 65.

[6] سورة العنكبوت، الآية 43.

[7] سورة آل عمران، الآية 190.

[8] سورة البقرة، الآية 171.

[9] سورة الانفال، الآية 22.

[10] سورة الاعراف، الآية 179.

[11] سورة الملك، الايات 11 - 6.

[12] د. عبدالكريم الخطيب: التصوف و المتصوفة في مواجهة الاسلام، ص 31.

[13] نفسه، ص 31.

[14] نفسه، ص 31.

[15] من كتاب «الحياء الوجدانية و العقيدة الدينية للدكتور محمود حسب الله، ص 278، و قد كان رحمه الله مدير المركز الاسلامي بواشنظن ثم أمينا عاما للمجلس لأعلي للبحوث الاسلامية بالأزهر.

[16] سورة الكهف، الآية 29.

[17] سورة البقرة، الآية 256.

[18] سورة العاشية، الآيات 22 -21.

[19] سورة الرعد، الآية 40.

[20] سورة يونس، الآية 99.

[21] قال الله تعالي في كتابه الحكيم: (و آتيناه من كل شي ء سببا فأتبع سببا). يقول د. ثروت عكاشة في تعقيبه: في هذا النص الكريم ما يكفي لاثبات أن الدين لا يتناقض مع العلوم - هامش ص 19 (من كتاب د. هنري لئك - العودة الي الدين - ترجمة د. عكاشة).

[22] Inteligence Quotient.

[23] Phi Beta Kappa هو اسم أقدم مؤسسة صحيفة للأدب الاغريقي تأسست عام 1776 م شعارها «الفلسفة دليل الحياة» و هي لا تعدو الآن ان تكون منظمة شرقية فقدت قيمتها الاجتماعية و صار اسمها الآن يمتح كدرجة علمية للطلبة الممتازين المتفوفين - د. عكاشة ص 22.

[24] Libido هي الطاقة الحيوبة في الانسان قصد بها فرويد الحرمان الجنسي أو الجانب العقلي للغريزة الجنسية، و لكن يونيج توسع في معني التعبير و أطلفه بصفة عامة علي الطاقة الحيوية بأسرها.

د. عكاشة ص 23.

[25] د. هنري لنك: العودة الي الدين - السابق، ص 29 - 20.

[26] سورة الانفال، آية 60.

[27] سورة الانفال، الآية 61.

[28] سورة الاحزاب، الآية 25.

[29] سورة الانفال، الآية 60.

[30] سورة الانفال، الآية 61.

[31] سورة المائدة، و الآية 3.